لا
أعتقد بوجود من نظر إلى شؤون الحياة بمنظار الشكّ كما فعلتْ، وكلّ من خَبِرَ شيئاً
من آلام العزلة الناجمة عن اختلاف تفكير المرء عن الآخرين، سيتفهم مسعاي المتكرر
لنيل قسطٍ من الراحة ونسيان النفس، إذ لطالما كنتُ في أشدّ الحاجة للإيمان بما
يُشفي نفسي وينعشها ويخفف من عزلتها، ثمة حاجة راسخة إلى ثقة رصينة في الصداقة حيث
لا شكَّ ولا تساؤلَ، وهذا ما دفعني لابتكار "الأرواح الحرّة" التي أكرّس
لها عملي هذا، فأنا في أمسّ الحاجة لها لتكون لي شركاء ورفقاء، فهؤلاء أتحدث معهم
وأضحك عندما أريد، وهم نوع من التعويض عن غياب الأصدقاء الحقيقيين.
لكن
قد تُوجد مثل هذه الأرواح الحرّة في المستقبل، هم الآن مجرّد أشباحٍ وظلالٍ وهميةٍ
في حالتي، لكن وجودهم سيكون واقعياً يوماً ما، أراهم قادمين، لكنهم يسيرون ببطءٍ
شديدٍ.. لعلّ وصفي المسبق لتطوّرهم ومساراتهم يُسرّع قدومهم.
لن
تنضج "الأرواح الحرّة" قبل وقوع حدثٍ حاسمٍ يتمثل في انعتاقٍ أو تحررٍ
عظيمٍ، سيأتي الانعتاق العظيم بغتةً لهؤلاء السجناء، ليهزّ أركانهم كالزلزال، تهتز
الروحُ الشابةُ بشدّةٍ وتتمزق دون أن تعي ما يحدث، ليقودها اندفاعٌ قسريٌ بإتقان،
فتتولد لديها إرادةٌ ورغبةٌ جارفةٌ بالمضي قدماً إلى أي مكانٍ ومهما كانت الأثمان،
ويلهبُها فضولٌ قويٌ وخطيرٌ لاستكشاف عالمٍ جديدٍ، وسيخرجُ
إلى الوجود صوتٌ مغرٍ يقول: "أفضّلُ الموتَ على العيش هنا" رغم أنّهم لم
يعرفوا مكاناً آخر، سيعتريهم شوقٌ منفلتٌ هائجٌ كما البركان، وتحدوهم الرغبة للسفر
بعيداً، لرؤية مناظر جديدة وأناس غريبة عنهم.
إنّ
"الروح الحرّة" لتعبيرٌ منعشٌ مستحبٌ، إذ تجعلُ "الروح
الحرّة" المرء متوهجاً، فيحيا حياةً لا تعرفُ حبّاً أو كراهيةً دون نعم أو
لا، حيث لا فرقَ بين هنا وهناك، حياةٌ لا تعرف تقدّماً أو تراجعاً، حيث لا يُزعِج
المرء نفسه بأمورٍ لا تهمه.
إنّ
كلّ ما يلزم خطوةٌ فحسب للشفاء، وتقترب الروح من الحياة مجدداً، صحيحٌ أنّ
اقترابها بطيءٌ يشوبه العصيان والشكّ، لكن ثمة دفءٌ وبهجةٌ يتدفق من جديد،
فالأجواء هنا طيّبةٌ أينما كان، ويشعر المرء فيها كما لو أنّ عينيه مفتوحتان على
الدوام، والدهشة تغمره فيما هو جالسٌ بصمت رنان: أين كان؟ ما هذه الأشياء التي من
أمامه ومن حوله، وكيف تغيّرت بالنسبة له؟ ها هو إذ يلتفتُ بامتنانٍ إلى الخلف،
ممتناً لتجواله ونفيه وشدّته، يحدّقُ بعيداً ويحلّقُ عالياً كما الطير في كبد
السماء، كم خانه الحظّ، كم كان حساساً شاحباً على الدوام في مسكنه لا يعرف مخرجاً
من حالته! لقد كان شخصاً آخرَ، وها هو الآن، يرى نفسه لأوّل مرّةٍ، فمن يُقدِّر
مثله اعتدال الجو في فصل الشتاء، ومن يشعر بالغبطة أكثر منه عندما يغمره نور
الشمس؟
ووسط
هذه الأضواء الخاطفة، سيتسنى للروح الحرّة كشف لغز انعتاقها العظيم، هذا اللغز الذي طال غموضه المريب، نعم، ستنجح الروح الحرّة في حلّ لغز تحررها، وتختتم تجربتها بالتعميم التالي:
"على الجميع اختبار ما أختبره"، وذلك عندما تظهر أي مشكلة، وستُثبت
القوة الداخلية وحتمية المشكلة تلك نفسها في الوقت المناسب، قبل أن ترى الروح
الحرّة هذه المشكلة بشكلها الصحيح، وقبل أن تتعلم تسميتها باسمها الصحيح بوقتٍ
طويلٍ.
إنّ
مصيرنا يمارس نفوذه علينا حتى قبل أن نعي طبيعته، إنّه مستقبلنا الذي يحدد حاضرنا،
إنّها مشكلة التراتبية التي قد نعاني منها نحن الأرواح الحرّة، هذه هي مشكلتنا،
لكن الأمر لا يتعدى الزمن الحاضر، لا يتعدى منتصف النهار من حياتنا، إذ أنّنا
نقدّر تماماً ماهية الاستعدادات والتحولات والمحاكمات والمحن والمراحل التي كانت
ضروريةً لتلك المشكلة قبل أن تبدو مرئيةً لنا، ولماذا كان علينا المضي قدماً عبر
مختلف أشكال الرضا والشوق المتناقضة للجسد والروح، كما لو أنّنا بحارةٌ مغامرون
نمخر عباب هذا العالم الداخلي الذي يُدعى "إنساناً".
لقد
بدأ هذا الكتاب الألماني رحلته منذ عشر سنوات، وهو مقروء على مدى واسعٍ في مختلف
الأراضي وشتى الشعوب، وهو يشقُ طريقه كما لو أنّه نغمةٌ ساحرةٌ تطربُ لها أذن
المتلقي الأجنبي كما المحلي، قُرِأ هذا الكتاب في ألمانيا بلامبالاةٍ وأحياناً
بقدرٍ ضئيلٍ من الاهتمام، فما سرّ ذلك؟ قيلَ لي أنّه "يتطلب الكثير من
التمعن، فهو موجهٌ إلى نفوسٍ متحررةٍ من ضغوط الالتزامات الصغيرة، وهو يتطلب
تفكيراً دقيقاً، وفائضاً من الوقت والكثير من خفة الروح والقلب، كما يتطلب فراغاً
وحريةً لا تعرفُ تقييد، وهي الأمور الجيّدة التي لم نمتلكها نحن الألمان حتى
اليوم! وفاقد الشيء لا يعطيه."
وبعد
هذا الاعتراف الرائع تكتفي فلسفتي بالصمت فلا تطرح أسئلةً أخرى، وكما يقول المثل:
يبقى المرء فيلسوفاً ما دام صامتاً!
من كتاب إنسان مفرط في إنسانيته تأليف فريدريك نيتشه وترجمة كنان القرحالي
رابط الكتاب على goodreads