التخطي إلى المحتوى الرئيسي

يبقى المرء فيلسوفاً ما دام صامتاً

لا أعتقد بوجود من نظر إلى شؤون الحياة بمنظار الشكّ كما فعلتْ، وكلّ من خَبِرَ شيئاً من آلام العزلة الناجمة عن اختلاف تفكير المرء عن الآخرين، سيتفهم مسعاي المتكرر لنيل قسطٍ من الراحة ونسيان النفس، إذ لطالما كنتُ في أشدّ الحاجة للإيمان بما يُشفي نفسي وينعشها ويخفف من عزلتها، ثمة حاجة راسخة إلى ثقة رصينة في الصداقة حيث لا شكَّ ولا تساؤلَ، وهذا ما دفعني لابتكار "الأرواح الحرّة" التي أكرّس لها عملي هذا، فأنا في أمسّ الحاجة لها لتكون لي شركاء ورفقاء، فهؤلاء أتحدث معهم وأضحك عندما أريد، وهم نوع من التعويض عن غياب الأصدقاء الحقيقيين.
لكن قد تُوجد مثل هذه الأرواح الحرّة في المستقبل، هم الآن مجرّد أشباحٍ وظلالٍ وهميةٍ في حالتي، لكن وجودهم سيكون واقعياً يوماً ما، أراهم قادمين، لكنهم يسيرون ببطءٍ شديدٍ.. لعلّ وصفي المسبق لتطوّرهم ومساراتهم يُسرّع قدومهم.
لن تنضج "الأرواح الحرّة" قبل وقوع حدثٍ حاسمٍ يتمثل في انعتاقٍ أو تحررٍ عظيمٍ، سيأتي الانعتاق العظيم بغتةً لهؤلاء السجناء، ليهزّ أركانهم كالزلزال، تهتز الروحُ الشابةُ بشدّةٍ وتتمزق دون أن تعي ما يحدث، ليقودها اندفاعٌ قسريٌ بإتقان، فتتولد لديها إرادةٌ ورغبةٌ جارفةٌ بالمضي قدماً إلى أي مكانٍ ومهما كانت الأثمان، ويلهبُها فضولٌ قويٌ وخطيرٌ لاستكشاف عالمٍ جديدٍ، وسيخرجُ إلى الوجود صوتٌ مغرٍ يقول: "أفضّلُ الموتَ على العيش هنا" رغم أنّهم لم يعرفوا مكاناً آخر، سيعتريهم شوقٌ منفلتٌ هائجٌ كما البركان، وتحدوهم الرغبة للسفر بعيداً، لرؤية مناظر جديدة وأناس غريبة عنهم.
إنّ "الروح الحرّة" لتعبيرٌ منعشٌ مستحبٌ، إذ تجعلُ "الروح الحرّة" المرء متوهجاً، فيحيا حياةً لا تعرفُ حبّاً أو كراهيةً دون نعم أو لا، حيث لا فرقَ بين هنا وهناك، حياةٌ لا تعرف تقدّماً أو تراجعاً، حيث لا يُزعِج المرء نفسه بأمورٍ لا تهمه.
إنّ كلّ ما يلزم خطوةٌ فحسب للشفاء، وتقترب الروح من الحياة مجدداً، صحيحٌ أنّ اقترابها بطيءٌ يشوبه العصيان والشكّ، لكن ثمة دفءٌ وبهجةٌ يتدفق من جديد، فالأجواء هنا طيّبةٌ أينما كان، ويشعر المرء فيها كما لو أنّ عينيه مفتوحتان على الدوام، والدهشة تغمره فيما هو جالسٌ بصمت رنان: أين كان؟ ما هذه الأشياء التي من أمامه ومن حوله، وكيف تغيّرت بالنسبة له؟ ها هو إذ يلتفتُ بامتنانٍ إلى الخلف، ممتناً لتجواله ونفيه وشدّته، يحدّقُ بعيداً ويحلّقُ عالياً كما الطير في كبد السماء، كم خانه الحظّ، كم كان حساساً شاحباً على الدوام في مسكنه لا يعرف مخرجاً من حالته! لقد كان شخصاً آخرَ، وها هو الآن، يرى نفسه لأوّل مرّةٍ، فمن يُقدِّر مثله اعتدال الجو في فصل الشتاء، ومن يشعر بالغبطة أكثر منه عندما يغمره نور الشمس؟
ووسط هذه الأضواء الخاطفة، سيتسنى للروح الحرّة كشف لغز انعتاقها العظيم، هذا اللغز الذي طال غموضه المريب، نعم، ستنجح الروح الحرّة في حلّ لغز تحررها، وتختتم تجربتها بالتعميم التالي: "على الجميع اختبار ما أختبره"، وذلك عندما تظهر أي مشكلة، وستُثبت القوة الداخلية وحتمية المشكلة تلك نفسها في الوقت المناسب، قبل أن ترى الروح الحرّة هذه المشكلة بشكلها الصحيح، وقبل أن تتعلم تسميتها باسمها الصحيح بوقتٍ طويلٍ.
إنّ مصيرنا يمارس نفوذه علينا حتى قبل أن نعي طبيعته، إنّه مستقبلنا الذي يحدد حاضرنا، إنّها مشكلة التراتبية التي قد نعاني منها نحن الأرواح الحرّة، هذه هي مشكلتنا، لكن الأمر لا يتعدى الزمن الحاضر، لا يتعدى منتصف النهار من حياتنا، إذ أنّنا نقدّر تماماً ماهية الاستعدادات والتحولات والمحاكمات والمحن والمراحل التي كانت ضروريةً لتلك المشكلة قبل أن تبدو مرئيةً لنا، ولماذا كان علينا المضي قدماً عبر مختلف أشكال الرضا والشوق المتناقضة للجسد والروح، كما لو أنّنا بحارةٌ مغامرون نمخر عباب هذا العالم الداخلي الذي يُدعى "إنساناً".
لقد بدأ هذا الكتاب الألماني رحلته منذ عشر سنوات، وهو مقروء على مدى واسعٍ في مختلف الأراضي وشتى الشعوب، وهو يشقُ طريقه كما لو أنّه نغمةٌ ساحرةٌ تطربُ لها أذن المتلقي الأجنبي كما المحلي، قُرِأ هذا الكتاب في ألمانيا بلامبالاةٍ وأحياناً بقدرٍ ضئيلٍ من الاهتمام، فما سرّ ذلك؟ قيلَ لي أنّه "يتطلب الكثير من التمعن، فهو موجهٌ إلى نفوسٍ متحررةٍ من ضغوط الالتزامات الصغيرة، وهو يتطلب تفكيراً دقيقاً، وفائضاً من الوقت والكثير من خفة الروح والقلب، كما يتطلب فراغاً وحريةً لا تعرفُ تقييد، وهي الأمور الجيّدة التي لم نمتلكها نحن الألمان حتى اليوم! وفاقد الشيء لا يعطيه."
وبعد هذا الاعتراف الرائع تكتفي فلسفتي بالصمت فلا تطرح أسئلةً أخرى، وكما يقول المثل: يبقى المرء فيلسوفاً ما دام صامتاً!

من كتاب إنسان مفرط في إنسانيته تأليف فريدريك نيتشه وترجمة كنان القرحالي
رابط الكتاب على goodreads

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اعمل بستانياً إذا كنت تحبّ الزهور

يحارب كلّ إنسان في العالم أحداً ما، وتجد إنساناً أقل شأناً من الآخر، ولا وجود للحبّ والاحترام والفكر، فكلّ فرد يريد أن يصبح ذا شأن؛ يريد عضو البرلمان أن يصبح رئيسه والوزير أن يصبح رئيس وزراء وهكذا دواليك. هناك قتال مستمر ومجتمعنا مبني على الكفاح المستمر للإنسان ضد أخيه الإنسان، ويدعون هذا الكفاح طموحاً. يقولون لك: يجب أن تكون طموحاً وذا شأن، أو عليك أن تتزوجي رجلاً غنياً، أو يجب أن تراعي اختيار أصدقائك. أي أنّ الجيل الأكبر سنّاً يحاولون أن يجعلوك مثلهم رغم ما يعتريهم من هلع وما تعج به قلوبهم من قبح، والمفارقة أنّك تريد أن تصبح مثلهم لأنّك مفتون بالمظاهر من حولك، فأنت تشاهد بانفعال كيف ينحني الجميع عندما يدخل الحاكم مجلساً ما. لذا من المهم جداً إيجاد المهنة المناسبة، وأقصد بالمهنة أمر تحبّ فعله، ويجب أن يكون هذا أمراً طبيعياً، فبعد كلّ شيء هذه هي الوظيفة الحقيقة للمدرسة، أي مساعدتك على تكوين شخصيتك بصورة مستقلة بحيث لا تكون طموحاً وتعرف كيفية إيجاد المهنة الأنسب لك، لكنها تشجع الطموحين والإنسان الطموح لن يجد مهنته الصحيحة أبداً. إنّ العمل في مهنة تناسب شخصيتك بصورة مثالية ل...

ملخص كتاب الحرية المالية

غلاف كتاب الحرية المالية   ملخص كتاب الحرية المالية جرانت سباتير ترجمة م. كنان القرحالي   المال هو الحرية سبعة مستويات للحرية المالية 1. الوضوح: عندما تعرف موقعك ووجهتك. 2. الاكتفاء الذاتي: عندما تكسب من المال ما يكفي لتغطية نفقاتك. 3. ال متنفس: عندما تخرج من دوامة العيش من مرتّب إلى مرتب. 4. الاستقرار: عندما تغطي ستة أشهر من خلال ادخار نفقات المعيشة وسداد الدَين السيئ مثل ديون بطاقة الائتمان. 5. المرونة: عندما تستثمر ما يغطي نفقات المعيشة عامين على الأقل. 6. الاستقلال المالي: عندما يمكنك العيش من الدخل الناجم عن استثماراتك ما دمتَ حيًا، لذا يصبح العمل اختياريًا. 7. ثروة وفيرة: عندما تكون لديك أموال أكثر مما ستحتاج إليه في أي وقت (الشكر للكاتب العظيم والصديق جيه دي روث مؤلف كتاب حقق الثراء بروية الذي كانت مستوياته إلهامًا لهذه المستويات).   الوقت أغلى من المال 1. المال غير محدود، أما الوقت فهو محدود، لذلك لا تهدر الوقت. 2. ينطوي نهج التقاعد التقليدي على ثلاث مشكلات رئيسة:         I.    ...

من كتاب الحياة ليست سينما -1

من كتاب الحياة ليست سينما اختيار وترجمة كنان القرحالي للمفكر العظيم كرينشامورتي إنّ الحياة دون حبٍّ صحراء قاحلة، ودون الحبّ لا معنى للطيور ولا لبسمة النساء والرجال ولا للجسر فوق النهر ولا للبحارة ولا للحيوانات؛ دون حبٍّ ما الحياة إلا مستنقعٌ ضحلٌ؛ ففي النهر العميق نجد الغنى والتنوع حيث يمكن للأسماك العيش، فيما يجف المستنقع الضحل بفعل أشعة الشمس القوية، ليبقى الطين والأوساخ. ------ الحبّ أمرٌ جديدٌ، منعشٌ، حيٌّ، لا يعرف ماضٍ ولا مستقبلَ، إنّه أبعد من اضطرابات الفكر، وحده العقل البريء هو من يعرف ماهية الحبّ. ---- إذا وُجِدَ الحبّ لن يكون هناك تعلّقٌ، وإذا وُجِدَ التعلّق لن يكون هناك حبٌّ، أي أنّ وجود الحبّ يتم بنفي وجود غيره، وهذا ما يعني في حياتنا اليومية: عدم تذكّر أي شيء قالته زوجتي أو حبيبتي أو جاري، لا ذكرى أحملها لأي أذية، لا تعلّق للصورة التي أحملها عنها، فقد كنتُ متعلّقاً بالصورة التي أنشأها فكري عنها، أنّها قد تسبّبُ إيذائي أو إزعاجي أو أنّها قد منحتني الراحة الجنسية وغيرها الكثير من الأمور التي أنشأ فكري صورةً عنها، والتي بدوري تعلّقتُ بها، وبهذا يكون...