الدور الخفي للصدفة في الحياة والأسواق
Fooled by Randomness
The Hidden Role of Chance in the Markets and in Life
نسيم نيكولاس طالب
ت: كنان القرحالي
يخلط الناس بين المهارات والحظ، وبين الاعتقاد الشخصي والمعرفة الحقيقية، ويقعون ضحية الخرافات المنتشرة من حولهم ولا يعطون أنفسهم فرصة التعرّف على دور العشوائية في الحياة اليومية كما في الأسواق، فالعشوائية التي ترفع أشخاصًا إلى العلا قد تدمر نجاحهم بنفس الطريقة.
إن فهم العشوائية ضروري كيلا نكون من أولئك الحمقى المحظوظين الذين ينتهي بهم المطاف كما ينتهي بلاعبي الروليت الروسية، فهؤلاء يستمتعون بالحظ ويضاعفون ثرواتهم لكن إذا استمروا باللعب يخسرون كل شيء، وهذا ما يحدث في الحياة الواقعية، حيث يكون للأحداث النادرة عواقب وخيمة، ولهذا يجب النظر في جميع الخيارات المتاحة قبل المضي قدمًا، والانسحاب في الوقت المناسب لتفادي خسارة كل شيء.
الحكيم المتبصر والحاكم الثري
كان كرويسوس ملك ليديا ويتمتع بسلطة كبيرة وثروة هائلة جمعها من التجارة، وكانت ثروته مضربًا للمثل، فيما تميّز سولون بأنه كان حكيمًا عالمًا، وذات مرّة زار سولون قصر الملك ولم تعجبه الحياة الباذخة التي كان كرويسوس يعيشها. تعجب الملك من رأي الحكيم وسأله إن كان قد رأى أو سمع بمن يحيا حياة مترفة مثله، فأجابه الحكيم بأن الثروة الكبيرة تحمل بذور الدمار في طياتها، وأن النعيم لا يدوم، وعلى الإنسان ألا ينسى تقلبات الزمن.
لقد أدرك الحكيم ما عجز الملك عن رؤيته، وهو دور الحظ في حياة الإنسان وأن ما جاء به الحظ قد يزول بالحظ أيضًا، أي أنه تنبه للحدث النادر الذي قد يأتي على كل شيء، حيث تنهي خسارة واحدة كل النجاحات السابقة.
الهيمنة بالنقر!
للعشوائية أثر واضح حياتنا، وكما تحدد الدجاجة قوتها أو مقدار هيمنتها بنقرها للدجاجات الأخريات، وهكذا هم البشر، يعيشون في طبقات ويُشكّلون تسلسلًا هرميًا للهيمنة، والأقوى سيكون أثرى ويمتلك من مقومات البقاء أكثر وسيتمتع بالحظ الأوفر، لكن هذه الطبقية لا تستند إلى أحقية حقيقية إنما هي ناجمة عن العشوائية والحظ كما هو الأمر لدى الحيوانات الأخرى وتراتبية مجتمعاتها.
الأحمق المحظوظ
إن فهم دور العشوائية في الحياة اليومية كما في التجارة ضروري لتجنب الوقوع ضحية الخرافات الحمقاء التي قد تهدم كل ما بنيناه عبر السنين.
ولفهم ذلك بصورة أفضل سننظر في ثروتي تاجرين خياليين وهما نيرو وجون. كان نيرو متداولًا مستقلًا ممن استخدم أسلوبًا محافظًا يقوم على الاحتراز من المخاطرة الكبيرة لذا لم يحقق الكثير من المال مثل العديد من المتداولين الآخرين، أما جون فكان متداولًا يحقق عوائدًا عاليةً، وقد جنى من المال أكثر بكثير من نيرو بفضل مجازفاته الكبيرة واعتماده على المخاطرة، وكان الأمر ينجح معه باستمرار، لكن حدثًا عشوائيًا سبّب تحولًا سريعًا في الأسواق في صيف عام 1998 وانهارت ثروة جون وخسر كلّ شيء.
لنعد إلى نيرو الذي كان بإمكانه أن يضاعف ثروته مرّات عدّة لكنه لم يفعل ذلك لأسلوبه في التداول وربما شخصيته في الحياة، فهو يخشى المخاطرة ويتحرز منها إلى الحدّ الأقصى، وهو ينشد المتعة الناجمة عن عمله في التداول في المقام الأول، ويجني من هذه المتعة المال الكافي لتطلعاته، وهو لا يثق بتقلبات السوق ويخشى خسارة أمواله ما يعني خسارة متعة عمله، وهو لا يرغب في العودة إلى المرحلة التي سبقت حياته كمتداول والتي كانت مرحلة لا يطيق تذكرها، فقد كان لا يحبّ عمله وقتها.
الفكرة من هذه القصة هو أن الأسلوب القائم على الحذر الشديد قد يكون مفيدًا في بعض الأحيان، لأنه يعوّض عما قد ينجم عن الحدث العشوائي النادر والمدمر في الحياة اليومية، وهذا ما جعل نيرو لا يهدف إلى زيادة أرباحه إلى الحدّ الأقصى إنما تجنب خسارة فرصته في التداول وكسب المال منه، وهو ما دفعه للانسحاب من الصفقات عندما تصل خسارته منها إلى مبلغ قد حدده سلفًا، وهو يدرس خيارته بحرص خشية تعرّضُه لخسائر كبيرة محتملة، وهذا ما جعل من خسارته محدودة في حال حدثت.
للعشوائية إمكانية كبيرة ويمكن أن تكون قوة مدمّرة في كل ما نفعله. بعض الناس حمقى لكن محظوظون ولا يعلمون أنهم ناجحون بحكم الحظ، وستنعكس ثروتهم الناجمة عن ضربات الحظ تلك في الطريقة التي يتصرفون ويفكرون وفقها، حيث أن أي ارتقاء في الأداء الشخصي ولأي سبب من الأسباب يؤدي إلى ارتفاع في السيروتونين، وهو ما يعزز القدرات القيادية لدى هؤلاء.
يبدو الأشخاص الناجحون أكثر قوة وسيطرة، ويتصرفون مع الآخرين وفق هذا المنطلق، وهذا شبيه بسلوك الحيوان القوي تجاه الحيوانات الأخرى عندما يتعلق الأمر بهيمنته. لكن هذا قد لا يدوم فتحوّل واحد في مسار الأمور وتنقلب الأحوال ويضيع كل شيء.
وفي المثال السابق عندما يشهد نيرو نهاية قصة المستثمرين ممن عرفهم، فإن هذا لا يعني خسارة عادية إنما خسارة كل ما يملكه المرء، وهذا أشبه بخسارة الطبيب لرخصة مزاولة المهنة. هذا سبب حذر نيرو الفائق، وهو ما جعله أقل ربحًا من زملائه، وأقل جاذبية منهم في نظر الشركات المالية.
ماهر أم محظوظ؟
لا يولي معظم الأشخاص الاهتمام الكافي للعشوائية، وهم يقللون من تأثيرها، ولا يتمتعون بأدنى فهم لكيفية تأثير الاحتمالات على الأحداث. ويمكن أن نضرب مثلًا على مفاهيم الناس الخاطئة من خلال التمييز بين ما يعتقده الكثيرون أنه سبب نجاحهم والواقع، فهم يعتقدون أنهم ماهرون في حين أنهم محظوظون فعليًا، ويعتقدون أن حدثًا معيّنًا كان لا بدّ من حدوثه فيما كانت مسألة حدوثه رهن العشوائية البحتة، كما أنهم يخلطون المعرفة واليقين مع الاعتقاد والتخمين ويظنون أن النظرية حقيقة وأن المصادفة قانون وأن التنبؤ نبوءة.
عندما يحصل مثل هذا الالتباس سينجم عنه في الغالب حمقى محظوظين، وهم أشخاص نجحوا بسبب أحداث عشوائية حصلت من دون إرادتهم في المقام الأول، لكنهم يعتبرون أنفسهم مستثمرين ماهرين. مثل هذه التصورات خطيرة فهي تجعل الناس يتجاهلون التقلبات الحقيقية التي قد تنهي كل شيء في خضم تركيزهم المحموم على زيادة العائدات.
الروليت والعشوائية
إن بعض التجار أشبه بلاعبي الروليت الروسي، فهم يتمتعون بعلامات الثروة لكن الاحتمال الأبرز على المدى الطويل هو أنهم سيخسرون الكثير. يمكن القول أن الواقع أشرس من الروليت الروسي، ومن غير المعروف متى سيُطلق رصاصته القاتلة، وقد يطول الأمر حتى يظن المرء أن هذه الرصاصة غير موجودة أساسًا، وقد ينسى المرء وجودها لينعم بالشعور الزائف بالأمان لكن اللحظة الحاسمة قادمة لا محالة. يمكن تشبيه الواقع بالمسدس الدوّار لكن بمئات أو آلاف الحجرات، وقد يطول الأمر حتى تخرج الرصاصة منه.
إن الواقع كالروليت، لكن مخاطره مخفية، ففي لعبة الروليت تنغمس في اللعب والمقامرة وزيادة ثروتك حتى تفقد رؤيتك للمخاطر. قد تستمر في اللعب لفترة طويلة دون خسائر كبيرة لكن قد تأتي لحظة يضيع معها كل شيء جمعته منها.
نقطة أخرى: يميل الناس إلى التركيز على النتائج المحتملة لقراراتهم فلا يهتمون لما قد يحدث إذا اختاروا خيارًا مختلفًا، ولذلك عليك التفكير في البدائل ومسار الأمور التي ستحصل في حالة كل خيار بديل، لا مجرد التفكير في المسار الذي يمنحك النتائج الأفضل لأنه قد يكون خادعًا لك. بصورة عامة لا يلتفت الناس كثيرًا لفهم الاحتمالات ولذلك فهم لا يضعون في بالهم المسارات والخيارات البديلة ولا تُعتبر بديهيةً لهم.
لا تبدو الحقائق الرياضية منطقية خاصة عند التفكير في نتائج العشوائية، فالنظرة التقليدية للأمور تدفعنا للبحث عن التفسيرات السريعة والبسيطة للأمور ومجريات الأحداث، نريد تفسيرًا موجزًا فحسب بدلًا من التمعن فيما هو صحيح ودقيق لكن يحتاج لوقت طويل في الدراسة والتعمق.
يمكنك فهم سلسلة من الأحداث التاريخية العشوائية بالاستعانة بروليت مونت كارلو. تخيّل عجلة الروليت التي تحاكي الأحداث العشوائية، حيث لديك احتمالات معيّنة للغنى الفاحش واحتمالات أخرى لإفلاس الشامل؛ وعلى الرغم من أن علماء الرياضيات لا يحبّون أسلوب مونت كارلو (فهو ينتقص من براعة وقوة الرياضيات) إلا أنه أسلوب واقعي لتفسير قوة العشوائية في الحياة.
تستطيع استخدام استعارة مونت كارلو لاستكشاف مسارات بديلة للأحداث ومعرفة ما هو مرجح الحدوث في ظل ظروف مختلفة، أي التفكير في كافة الاحتمالات من الاحتمالات المؤدية إلى النجاح الكبير إلى تلك المؤدية إلى الخيبة المريرة، ولذلك يصيب الحذرون نجاحًا في سيناريوهات الأزمات، وهم بذلك ينجون بثروتهم بخلاف الأشخاص الذين تعميهم النجاحات المتتالية فلا يتصرفون بحذر. إن التفكير في جميع سيناريوهات الازدهار كما الكساد يمكنكَ من فهم آفاق النجاح بصورة أفضل.
بالتفكير في استعارة مونت كارلو ستجد أن البعض يستفيد من ارتفاع الأسعار ويصبحون أثرياء ويشترون المزيد ويستمرون في رفع الأسعار إلى أن يفشلوا في النهاية، وهم يراهنون بثروتهم في أسلوبهم هذا، فلا يحتاطون ولا ينظرون في مسارات بديلة تقيهم شرّ التقلبات، فيما ينجو من يكون على حيطة دائمة وينظر في الخيارات الأخرى المتاحة بصورة دائمة.
كيف تخدعك العشوائية
أن يكون المرء مخدوعًا بالعشوائية أمر لا يبدو معقولًا للكثيرين، لكن إذا كنت من هؤلاء فكر في برامج الكمبيوتر التي تنشئ نصوصًا باختيار عبارات وأدوات عطف بصورة عشوائية، وعلى الرغم من أن هذه الجمل التي أُنشئت عشوائيًا لا معنى لها ومع ذلك فإنها غالبًا ما تخدع الأشخاص ويظنون أنها نصوص أدبية أو فكرية من تأليف أحدهم.
تذكر أيضًا أن العديد من الأشخاص لا مشكلة لهم بأن ينخدعوا بالعشوائية كرد فعل على قسوة التفكير العلمي والعقلاني، ويمكن للمرء أن يستمتع بسلوك عشوائي وغير عقلاني في حياته اليومية والشخصية إلى حدّ معيّن لكن هذا النهج لا يصلح في حالة الأسواق، وهو كارثي تمامًا في تلك الحالة، ولا يعني هذا أن جميع قرارات الاستثمار اللاعقلانية ستحصد المرارة والنتيجة المخيّبة بالضرورة.
يمكن أن تؤدي العشوائية إلى بقاء الأضعف، وقد يكون أغنى التجار في وقت من الأوقات أسوأهم، لنأخذ على سبيل المثال تاجر البورصة ذا العوائد الكبيرة، والذي خسر 14 مليون دولار عندما انهار السوق. مع بداية الانهيار كان ردّ فعله الأوليّ هو تجاهل السوق معتبرًا أن ما جرى مجرّد تقلب مزاجي، وأن ما حصل مؤقت لن يطول وستعود الأمور إلى سابق عهدها، وهذا ما لم يحصل.
ينخدع التجار بالعشوائية عندما يبالغون في تقدير دقة ما يعتقدون به بشأن إجراء اقتصادي أو إحصائي، وهم لا يعتبرون أن نجاحهم التجاري في الماضي كان مجرّد مصادفة وأن العنصر العشوائي محجوب في الأحداث الماضية بسبب تحليلاتهم الاقتصادية، كما ينخدع هؤلاء بالعشوائية عندما لا يكون لديهم خطة دقيقة مسبقة للتعامل مع الخسائر، ويخسرون أكثر عندما ينكرون حقيقة تدهور أعمالهم ويتشبثون بماضيهم المزدهر.
التحسب للحدث النادر
يخلط الناس بين الاحتمالات الواردة لمسار أمر ما وتوقعاتهم المسبقة، وهم لا ينظرون إلى الجانب السلبي للأمور، ويقودهم النجاح لحصر تفكيرهم في احتمال واحد مثل مضاعفة المردود.
إن الاختلافات البسيطة مهمة جدًا في الأسواق، ولا يمكن الاستفادة من دروس النجاح بصورة بديهية لأن أي فرق ومهما كان طفيفًا فهو حاسم في الأسواق، ولذلك عليك أن تضع في اعتبارك المكاسب والخسائر المحتملة، وألا تُضللك التحليلات عن صعود أو هبوط السوق لأنها تشير إلى احتمال واحد وتهمل الاحتمال الآخر.
لأي حدث أهميته الكبيرة في المجال المالي، ولا يمكن تجاهله مهما كان نادرًا خاصة إذا له عواقب كبيرة، وهذا ما يقع فيه الكثيرون إذ يعتمدون على الاحصائيات والدراسات، ويغفلون أن الإحصائيات غالبًا ما تفشل في اكتشاف الأحداث النادرة. هذا يعني أنه عليك أن تجد مقاييس أدق أو أن تأخذ باعتبارك احتمال حدوث مثل هذه الأحداث النادرة وأن تقيّم الأمور مع مراعاة حصول مثل هذا الاحتمال.
تُعقّد العشوائية الاستقراء والاستدلال أيضًا، رغم أنهما أداتان مفيدتان للغاية في اتخاذ القرارات الحاسمة التي تجلب الربح الوفير، ومع ذلك لا تحاول استخدام الاستقراء أو الاستدلال في إدارة المخاطر المحتملة، فقد يتسبب حدث عشوائي واحد في تدمير أعمالك.
نصائح لتحسين أدائك
تستطيع التعايش مع العشوائية بمجرّد معرفة وفهم الدور الذي تلعبه في حياتنا وأسواقنا، ولتحسين أدائك لا تستخدم أمثلة ناجحة مهما بلغت درجة نجاحها لإثبات فكرة ما، فهناك العديد من الأمثلة الأخرى على الفشل، وإذا كنت لا تراها أو لم تسمع بها أو تتعمد تجاهلها فهذا لا يعني أنها غير موجودة أو أن احتمال حدوث نفس الشيء معك غير وارد.
أيضًا تجنب التحيّز للناجين من الأزمات، ولا تثق كثيرًا بطريقتهم أو بأي طريقة أخرى، فحقيقة أن شخص ما قد جمع ثروة كبيرة في الماضي لا تهم ولا تفيدنا بشيء إذ لم نأخذ باعتبارنا جميع العوامل التي ساهمت في بنائه هذه الثروة. صحيح أن نجاح الرجل كان مدويًا لكنه يحجب عنا التفكير والتقييم الصحيح للأمور، فنحن بحاجة إلى معرفة عدد الأشخاص الآخرين الذين حاولوا مثله وفشلوا، وحتى لو نجح الكثيرون في نفس الأمر تجاهل النتيجة وابقِ الاحتمالات الأخرى في بالك.
وأخيرًا تذكر ألا تبالغ في تقديراتك وتوقعاتك، ولا تهتم كثيرًا بتقديرك أو توقعك بقدر اهتمامك بمستوى ثقتك في الخيار الذي يحقق توقعك.
نبذة عن المؤلف
نسيم نيكولاس طالب: مؤسس شركة وأستاذ مساعد في معهد كورانت للعلوم الرياضية في جامعة نيويورك، وقد شغل مناصب تجارية عليا في نيويورك ولندن، وهو مؤلف عدد من الكتب الهامة وأشهرها "سرير بروكروست" و"البجعة السوداء" و"مضاد الهشاشة" وهو حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة باريس دوفين والماجستير في إدارة الأعمال من كلية وارتون في جامعة بنسلفانيا.